سورة الأحزاب - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


وصف الله تعالى المؤمنين حين رأوا تجمع الأحزاب لحربهم وصبرهم على الشدة وتصديقهم وعد الله تعالى على لسان نبيه، واختلف في مراد المؤمنين بوعد الله ورسوله لهم، فقالت فرقة: أرادوا ما أعلمهم به رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر بحفر الخندق فإنه أعلمهم بأنهم سيحصرون وأمرهم بالاستعداد لذلك وأعلمهم بأنهم سينصرون من بعد ذلك، فلما رأوا الأحزاب {قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله} فسلموا لأول الأمر وانتظروا آخره، وقالت فرقة: أرادوا بوعد الله ما نزل في سورة البقرة من قوله: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذي خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب} [البقرة: 214].
قال الفقيه الإمام القاضي: ويحتمل أن يكون المؤمنون نظروا في هذه الآية، وفي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أمرهم بحفر الخندق، وأشاروا بالوعد إلى جميع ذلك، وهي مقالتان إحداهما من الله والأخرى من رسوله، وزيادة الإيمان هي في أوصافه لا في ذاته لان ثبوته وإبعاد الشكوك عنه والشبه زيادة في أوصافه، ويحتمل أن يريد إيمانهم بما وقع وبما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم مما لم يقع فتكون الزيادة في هذا الوجه فيمن يؤمن به لا في نفس الإيمان، وقرأ ابن أبي عبلة {وما زادوهم} بواو جمع، والتسليم الانقياد لأمر الله تعالى كيف جاء، ومن ذلك ما ذكرناه من أن المؤمنين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند اشتداد ذلك الخوف: يا رسول الله إن هذا أمر عظيم فهل من شيء نقوله؟ فقال: قولوا «اللهم استر عوراتنا وأمن روعاتنا»، فقالها المسلمون في تلك الضيقات. ثم أثنى الله على رجال من المؤمنين عاهدوا الله تعالى على الاستقامة التامة فوفوا وقضوا نحبهم، أينذرهم وعهدهم، والنحب في كلام العرب النذر، والشيء الذي يلتزمه الإنسان، ويعتقد الوفاء به، ومنه قول الشاعر: قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر، المعنى أنه التزم الصبر إلى موت أو فتح فمات ومن ذلك قول جرير: [الطويل]
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا *** عشية بسطام جرين على نحب
أي على أمرعظيم التزم القيام، كأنه خطر عظيم وشبهه، وقد يسمى الموت نحباً، وبه فسر ابن عباس هذه الآية، وقال الحسن {قضى نحبه} مات على عهد، ويقال للذي جاهد في أمر حتى مات قضى في نحبه، ويقال لمن مات قضى فلان نحبه، وهذا تجوز كأن الموت أمر لا بد للإنسان أن يقع به فسمي نحباً، لذلك فممن سمى المفسرون أنه أشير إليه بذلك أنس بن النضر عم أنس بن مالك، وذلك أنه غاب عن بدر فساءه ذلك وقال: لئن شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشهداً ليرين الله ما أصنع، فلما كانت أحد أبلى بلاء حسناً حتى قتل ووجد فيه نيف على ثمانين جرحاً، فقالت فرقة: إن هذه الإشارة هي إلى أنس بن النضر ونظرائه من استشهد في ذات الله تعالى، وقال مقاتل والكلبي الرجال الذين {صدقوا ما عاهدوا الله عليه} هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة، وقالت فرقة: الموصوفون بقضاء النحب هم جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوا بعهود الإسلام على التمام، فالشهداء منهم، والعشرة الذي شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة منهم، إلى من حصل في هذه المرتبة من لن ينص عليه، ويصحح هذه المقالة ما روي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على المنبر فقال له أعرابي: يا رسول الله من الذي قضى نحبه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ساعة، ثم دخل طلحة بن عبيد الله على باب المسجد وعليه ثوبان أخضران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين السائل؟ فقال: ها أنا ذا يا رسول الله، قال: هذا ممن قضى نحبه».
قال القاضي أبو محمد: فهذا أدل دليل على أن النحب ليس من شروطه الموت، وقال معاوية بن أبي سفيان: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «طلحة ممن قضى نحبه»، وروت هذا المعنى عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله تعالى: {ومنهم من ينتظر} يريد ومنهم من ينتظر الحصول في أعلى مراتب الإيمان والصلاح وهو بسبيل ذلك {وما بدلوا} وما غيروا، ثم أكد بالمصدر، وقرأ ابن عباس على منبر البصرة {ومنهم من بدل تبديلاً}، رواه عنه أبو نصرة، وروى عنه عمرو بن دينار ومنهم من ينتظر وآخرون بدلوا تبديلاً، واللام في قوله تعالى: {ليجزي} لام الصيرورة والعاقبة، ويحتمل أن تكون لام كي، وتعذيب المنافقين ثمرة إدامتهم الإقامة على النفاق إلى موتهم والتوبة موازية لتلك الإدامة وثمرة التوبة تركهم دون عذاب فهما درجتان: إقامة على نفاق، أو توبة منه، وعنهما ثمرتان تعذيب، أو رحمة، فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدة من هاتين، وواحدة من هاتين، ودل ما ذكر على ما ترك ذكره ويدلك على أن معنى قوله {ليعذب} ليديم على النفاق قوله {إن شاء} ومعادلته بالتوبة وبحرف {أو} ولا يجوز أحد أن {إن شاء} يصح في تعذيب منافق على نفاقه بل قد حتم الله على نفسه بتعذيبه.


عدد الله تعالى في هذه الآية نعمه على المؤمنين في هزم الأحزاب وأن الله تعالى ردهم {بغيظهم} لم يشفوا منه شيئاً ولا نالوا مراداً، {وكفى} كل من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل الأحزاب، وروي أن المراد ب {المؤمنين} هنا علي بن أبي طالب وقوم معه عنوا للقتال وبرزوا ودعوا إليه وقتل علي رجلاً من المشركين اسمه عمرو بن عبد ود، فكفاهم الله تعالى مداومة ذلك وعودته بأن هزم الأحزاب بالريح والملائكة وصنع ذلك بقوته وعزته.
قال أبو سعيد الخدري: حبسنا يوم الخندق فلم نصل الظهر ولا العصر ولا المغرب ولا العشاء حتى كان بعد هوى من الليل كفينا وأنزل الله تعالى، {وكفى الله المؤمنين القتال}، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً فأقام وصلى الظهر فأحسنها ثم كذلك حتى صلى كل صلاة بإقامة. وقوله تعالى: {وأنزل الذين ظاهروهم} يريد بني قريظة بإجماع من المفسرين، قال الرماني وقال الحسن الذين أنزلوا {من صياصيهم} بنو النضير، وقال الناس: هم بنو قريظة، وذلك أنهم لما غدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وظاهروا الأحزاب عليه أراد الله تعالى النقمة منهم، فلما ذهب الأحزاب جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقت الظهر فقال: يا محمد إن الله تعالى يأمرك بالخروج إلى بني قريظة، فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس وقال لهم: «لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة»، فخرج الناس إليها ووصلها قوم من الصحابة بعد العشاء وهم لم يصلوا العصر وقوفاً مع لفظ النبي صلى الله عليه وسلم فلم يخطئهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وصلى قوم في الطريق ورأوا أن قول النبي صلى الله عليه وسلم إنما خرج مخرج التأكيد فلم يخطئهم أيضاً، وحاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة خمساً وعشرين ليلة، ثم نزلوا على حكم سعد بن معاذ الأوسي، وكان بينهم وبين الأوس حلف فرجوا حنوه عليهم، فحكم فيهم سعد بأن تقتل المقاتلة، وتسبى الذرية والعيال والأموال، وأن تكون الأرض والثمار للمهاجرين دون الأنصار، فقالت له الأنصار، فقالت له الأنصار في ذلك، فقال: أردت أن تكون لهم أموال، كما لكم أموال فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبعة أرقعة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجالهم فأخرجوا أرسالاً وضرب أعناقهم وهم من الثمانمائة إلى التسعمائة، وسيق فيهم حيي بن أخطب النضري وهو الذي كان أدخلهم في الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب الأحزاب دخل عندهم وفاء لهم، فأخذه الحصر حتى نزل فيمن نزل على حكم سعد، فلما نزل وعليه حلتان فقاحيتان، ويداه مجموعة إلى عنقه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: والله يا محمد أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولقد اجتهدت، ولكن من يخذل الله يخذل، ثم قال: أيها الناس إنه لا بأس بأمر الله وقدره ملحمة كتبت على بني إسرائيل ثم تقدم فضربت عنقه، وفيه يقول جبل بن حوال الثعلبي: [الطويل]
لعمرك ما لام ابن أخطب نفسه *** ولكنه من يخذل الله يخذل
لأجهد حتى أبلغ النفس عذرها *** وقلقل يبغي العز كل مقلقل
و {ظاهروهم} معناه عاونوهم، وقرأ عبد الله بن مسعود {آزروهم} وهي بمعنى {ظاهروهم} والصياصي: الحصون، واحدها صيصة وهي كل ما يمتنع به، ومنه يقال لقرون البقر الصياصي، والصياصي أيضاً: شوك الحاكة، وتتخذ من حديد، ومنه قول دريد بن الصمة: [الطويل]
كوقع الصاصي في النسيخ الممدّد ***
والفريق المقتول: الرجال المقاتلة، والفريق المأسور: العيال والذرية، وقرأ الجمهور {وتأسِرون} بكسر السين، وقرأ أبو حيوة {تأسُرون} بضم السين، وقوله {وأورثكم} استعارة من حيث حصل ذلك لهم بعد موت الآخرين من قبلهم، وقوله {وأرضاً لم تطؤوها}، يريد بها البلاد التي فتحت على المسلمين بعد كالعراق والشام ومكة فوعد الله تعالى بها عند فتح حصون بني قريظة وأخبر أنه قد قضى بذلك قاله عكرمة، وذكر الطبري عن فرق أنهم خصصوا ذلك، فقال الحسن بن أبي الحسن: أراد الروم وفارس، وقال قتادة: كنا نتحدث أنها مكة، وقال يزيد بن رومان ومقاتل وابن زيد: هي خيبر، وقالت فرقة اليمن.
قال الفقيه الإمام القاضي: ولا وجه لتخصيص شيء من ذلك دون شيء.


اختلف الناس في سبب هذه الآية، فقالت فرقة سببها غيرة غارتها عائشة، وقال ابن زيد وقع بين أزواجه عليه السلام تغاير ونحوه مما شقي هو به فنزلت الآية بسبب ذلك، ويسر الله له أن يصرف إرادته في أن يؤوي إليه من يشاء، وقال ابن الزبير: نزل ذلك بسبب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله أزواجه النفقة وتشططن في تكليفه منها فوق وسعه، وقالت فرقة بل سبب ذلك أنهن طلبن منه ثياباً وملابس وقالت واحدة: لو كنا عند غير النبي لكان لنا حلي ومتاع. وقال بعض الناس: هذه الآية أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلاوتها عليهن وتخييرهن بين الدنيا والآخرة وأمر الطلاق مرجاً فلو اخترن أنفسهن نظر هو كيف يسرحهن وليس فيها تخييرهن في الطلاق، لأن التخيير يتضمن ثلاث تطليقات وهو قد قال: {وأسرحكن سراحاً جميلاً} وليس مع بت الطلاق سراح جميل، وقالت فرقة: بل هي آية تخيير فاخترته ولم يعد ذلك طلاقاً وهو قول عائشة أيضاً. واختلف الناس في التخيير إذا اختارت المرأة نفسها، فقال مالك: هي طالق ثلاثاً ولا مناكرة للزوج بخلاف التمليك، وقال غيره هي طلقة بائنة، وقال بعض الصحابة إذا خير الرجل امرأته فاختارته فهي طلقة وهذا مخالف جداً، وقوله تعالى: {إن كنتن تردن الحياة الدنيا} أي إن كانت عظم همتكن ومطلبكن الدنيا أي التعمق فيها والنيل من نعيمها وزينة الدنيا المال والبنون. {فتعالين} دعاء، و{أمتعكن} معناه أعطيكن المتاع الذي ندب الله تعالى له في قوله {ومتعوهن} [البقرة: 236]، وأكثر الناس على أنها من المندوب إليه، وقالت فرقة هي واجبة، والسراح الجميل يحتمل أن يكون ما دون بت الطلاق ويحتمل أن يكون في بقاء جميل المتعقد وحسن العشرة وجميل الثناء وإن كان الطلاق باتاً و{أعد} معناه يسر وهيأ والمحسنات الطائعات لله والرسول.
قال الفقيه الإمام القاضي: وأزواج النبي صلى اللواتي فيهن تسع، خمس من قريش، عائشة بنت أبي بكر الصديق، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت أبي أمية، وأربع من غير قريش، ميمونة بنت الحارث الهلالية، وصفية بنت حيي بن أخطب الخيبرية، وزينب بنت جحش الأسدية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية.
قال الفقيه الإمام القاضي: وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج من إيلائه الشهر ونزلت عليه هذه الآية بدأ بعائشة وقال: «يا عائشة إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك» ثم تلا عليها الآية، فقالت له: وفي أي هذا أستأمر أبوي فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت وقد علم أن أبوي لا يأمراني بفراقه ثم تتابع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم على مثل قول عائشة فاخترن الله ورسوله رضي الله عنهن.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8